شكّلت حالة التقسيم الشامل للأمة الإسلامية بعد انهيار
الدولة العثمانية أساساً استراتيجياً لإضعاف الأمة العربية والإسلامية على حد
سواء، ولا تزال هذه التقسيمات تمثل البديل الواقعي والعملي بل والمحبب لدى معظم شعوب
وقيادات في العالم الإسلامي بدلاً من الوحدة الإسلامية أو العربية،
وبرغم كثرة الترديد للوحدة العربية منها والإسلامية لكن
لم تطرح خطة عمل أو برامج تقود إلى هذه الوحدة، وكان ينظر كل قطر وكل حاكم وكل
نخبة إلى هذه النظريات بوصفها استهدافاً لمصالحه واستحواذاته الخاصة على الثروات.
وبرغم تنامي الإشكالات والتحديات بل والمخاطر التي تهدد
الأمة على الصعيد الوجودي أحياناً والهوية والدين بل والسيادة أحياناً أخرى، غير أن
أقصى ما تم المحافظة عليه حتى الآن جامعة الدول العربية كمؤسسة تنسيقية فقط، وبناء
منظمة التعاون الإسلامي التي أسست عام 1968 لتحرير القدس حسب ميثاقها، والتي إلى
جانب الجامعة العربية لم تتمكن من تحقيق التكامل والوحدة بين الأمة العربية أو في إطار
أوسع الأمة الإسلامية. لقد حرمنا الانقسام القطري والإثني والجهوي والفرعي من
استثمار ثرواتنا وتحقيق التقدم والتنمية العالمية الواسعة.
وبرغم تنامي أدوار وإمكانات دول كبرى منها مثل تركيا
وماليزيا وباكستان وأندونيسيا وإلى حد ما إيران، غير أنها لا تزال تطرح فكرة الأمة
الإسلامية والوحدة الإسلامية على استحياء، بل وتعمل بعضها في سياست الاحتراب
الداخلي والتدمير لدول إسلامية مهمة كالعراق وسوريا. ويبدو أن العقبة الفكرية لدى
النخب الحاكمة والنخب المثقفة تشكل أساس هذه الإشكالية والترددات في التعامل معها
بعيداً عن الخلافات القائمة، والتي بالتأكيد سوف تنتهي مع تقدم مشاريع التكامل
والوحدة.
الأجيال التي ترعرعت على فكر القطرية والإثنية والقومية
تجد صعوبة في تحقيق مقاربة عملية واقعية تقبلها ثقافتها لإعادة أحياء الوحدة الإسلامية
أو حتى العربية، بل حتى في نظرية التكامل الاقتصادي التي يلتقي عليها الناس في
العالم لمصالح مادية بحتة لا يدعمها أي دين أو فكر أو حضارة، وأصبح ذكر الماضي
التليد بعظمة حضارتنا الإسلامية في كل عهودها مجرد عيش في الماضي لدى بعض النخب
المثقفة هذه الأزمة تعبر عن أزمة هوية فعلاً، وأزمة حضارية في النخب الحاكمة
والمثقفة، كما تعبر عن تداخل المصالح الشخصية الآنية مع المصالح العليا.
ويُشار في هذا الصدد
إلى محاولة ماليزيا برئاسة الدكتور محمد مهاتير إشعال الشعلة في كوالالمبور في الأسبوع
الثاني من ديسمبر/ كانون أول 2019، حينما وجه الدعوة بعد مباحثات مباشرة مع رؤساء وقادة
خمس دول إسلامية. ومتابعات المؤتمر أكدت أن إحياء فكرة الحضارة الإسلامية والوحدة الإسلامية
والأخوة الإسلامية والسعي لتحقيق تكاملات في الصناعة والزراعة والدفاع
والتكنولوجيا والشباب إنما هي أفكار واقعية وعملية، وقد تم توقيع 10 اتفاقيات بين
كل من ماليزيا وتركيا في هذه المجالات في المؤتمر كخطوة مباشرة للبدء في مشروع
التعاون والوحدة الإسلامية، كما تم تشكيل لجنة عليا لإطلاق فضائية إسلامية متخصصة
بمحاربة الإسلاموفوبيا في العالم. وتم تبني فكرة السعي لتصنيع التكنولوجيا بدل
الاستمرار باستيرادها من الآخرين، خاصة وأنها أصبحت تتدخل في الأمن القومي لكل
دولة وأصبحت تؤثر بشكل مباشر على الأمن والاستقرار والهوية والدين.
ولذلك فإن فكرة الأخوة والوحدة والهوية الدينية
والثقافية والتكامل في الثروات الطبيعية والقدرة على استجماع القوة لاستعادة
المكانة الجماعية للأمة على مستوى العالم، والدفاع عن قضاياها المختلفة أصبحت
ضرورة لتحقيق التقدم ووقف الهدر الداخلي والاعتماد على المستعمر بكل أشكاله، وهذا
لا يعني الانغلاق على الذات ولكن التعامل مع كل العالم كقوة واحدة وأمة واحدة
وبهوية واحدة.
المسألة إذن من يعلق الجرس من النخب الحاكمة والمثقفة
والقادة وعلى الجميع دعمه والوقوف إلى جانبه وتجاوز كل المخاوف من بعضنا أو من تهديدات
الاستعمار، وصهر الهويات الفرعية الجهوية والقومية والمصالح القطرية والحزبية
والفئوية في هذا المسار لنشكّل حالة تحول حضاري تاريخي أصبح اليوم متطلباً للنهضة
والنهوض.
وبالتأكيد فإن هناك وجهات نظر واعتبارات وتحديات كبيرة
وواسعة تحتاج إلى مناقشة ومعالجة أوسع مع طيف واسع من النخبة الإسلامية والعربية
بكل أطيافها ربما في مقامات أخرى ومؤتمرات وندوات وورش عمل يجري عقدها خلال السنوات
العشر القادمة.