لقد أحدث المتغير التكنولوجي تغير الكثير من المفاهيم والمسلمات، وغير من وظائف الدولة وأجزائها وإعادة توزيع القوة والثروة عالميًا، وقيام نظام عالمي جديد كانت أهم ملامحه هو بروز الجهات الفاعلة العالم غير الدولة كالشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، فضلاً عن تغيير نمط الصراعات من عسكرية –أمنية إلى اقتصادية– تكنولوجية.
إن تأثير التكنولوجيا في السلم والحرب يتجلى عند نقاط التغير الأساسية سواء بالنسبة لما أدت إليه من فائض عند بعض المجتمعات دون الأخرى أو بالنسبة لما تضمنته من تطوير لأدوات الحرب عند بعضها الآخر أو بالنسبة لما أدت إليه من سيطرة على عنصري الزمان (السرعة) والمكان (المسافة) عند بعض المجتمعات دون الأخرى أو بالنسبة لتشكيل الخامات واستغلال الطاقة (الصناعة) أو في غير ذلك من خطوط المفارقة بين المجتمعات البشرية من هذه الناحية.
قدمت المفارقة التكنولوجية هذه (الفائض، أدوات الحرب، المواصلات،الصناعة)، باستمرار أهم أسباب الصراع بين هذه المجتمعات وذلك لما هيأته لبعضها دون الآخر أو بدرجة تفوقه من أسباب القوة والبروز، ويستحيل في آخر الأمر تفسير
العلاقة بين الجغرافيا والقوة وتوزيعها زمانيًا ومكانيًا دون الرجوع باستمرار إلى خطوط المفارقة التكنولوجية هذه دون الرجوع إلى ما سببته كعوامل محركة، من نقاط التغير والتحولات التاريخية وما أدت إليه من مستويات القوة في خريطة العالم قديمة ووسيطة وحديثة ونحن نعيش الآن عصر إمبريالية التكنولوجيا، إمبريالية أصبحت قادرة على السيطرة والتحكم في كثير من دقائق وتفاصيل حياة البشرية في كل أرجاء المعمورة وأن تدخل وتتسرب إلى دول الأطراف بلا أدنى مقاومة من حكوماته فضلاً عن شعوبه بل في معظم الأحيان بكثير من الانبهار والترحيب.
من هنا كانت أهم دوافع اختيار هذا الموضوع للبحث فيه والتعمق في جذوره كأحد المختصين في الجغرافيا السياسية، حيث أهلت دراسة المتغير التكنولوجي في الدراسات الجغرافية عامة والجغرافيا السياسية، خاصة رغم محوريته في توزيع القوة والثروة عالميًا، ورغم تأثيره الكبير على تغير وجه الأرض والعلاقات بين الإنسان وبيئته، وربما يعود ذلك إلى صعوبة قياس هذا المتغير على الرغم من أهميته مع عدم إمكانية إهماله، فضلاً عن سرعة تغيره زمانًا ومكانًا، إلى جانب ضعف منهجيته ودراسته جغرافيًا، لذا يمكن اعتبار هذه الدراسة من المداخل الأولى التي تسلط الضوء على أثر المتغير التكنولوجي في تفسير العلاقات بين الدول، وفي اكتساب القوة والسيطرة مفهومًا وتصنيفًا وتوزيعًا جديدًا.
وتطرق البحث إلى العلاقة بين التكنولوجيا وتقسيم العمل الدولي حيث يشير مصطلح تقسيم العمل الدولي إلى نمط توزيع الأدوار والتخصصات الاقتصادية بين الدول بحيث يصبح لكل مجموعة دور محدد في السوق العالمية بحسب إمكاناتها ومستواها التكنولوجي، وبهذا لقد مر نظام تقسيم العمل الدولي بصيغ عدة وأشكال مختلفة تبعًا لمستوى التطور المادي والتكنولوجي وبالتالي يشكل التخصص في الإنتاج مما يجعل التقسيم الدولي للعمل متحركًا في أشكاله، ثابتًا في جوهره أي المحافظة على العلاقة بين المركز الرأسمالي العالمي والأطراف التابعة له وبتتبع الخط التاريخي لمسيرة تقسيم العمل الدولي فقد قسمت إلى ثلاث مراحل، واحتوت هذه المسيرة لتقسيم العمل الدولي على عدة خصائص.
وفي ظل التقسيم الجديد للعمل الناجم عن التطور التكنولوجي فقد عملت دول المركز الراسمالي على إعادة توزيع التخصص على المستوى العالمي من خلال عمليتين:
أولاهما: التكنولوجيا وإعادة توزيع الصناعة في العالم.
ثانيتهما: إعادة نشر الزراعة شمالاً.
حيث أحدثت الثورة الصناعية والتكنولوجية تغيرات هيكلية في ميدان الزراعة على الصعيد العالمي، إذ بدأت تظهر صناعة جديدة في الشمال هي صناعة التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية، وهي صناعة حديثة، وتتصف بكونها أكبر صناعة للنمو في القرن الحالي، إذ بفضلها تتحول الزراعة إلى صناعة حقيقية، فنجد أنفسنا أمام ظاهرة المزارع الصناعية، أو (المصانع الزراعية)، التي سوف تغير من النمط الراهن
لتقسيم العمل الدولي في الزراعة تغيرًا بعيد المدى.
وجاء أيضا في البحث الآثار الجيوبولتيكية لتقسيم العمل الدولي الجديد حيث يتشكل الصراع الدولي حاليًا حول الثورة العلمية والتكنولوجية بصورة رئيسية مما يدفع إلى إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي، وتكريس تقسيم عمل دولي يتحكم فيه
التوزيع الجغرافي للتكنولوجيا في العالم، وقد كان لهذا التقسيم الدولي الجديد آثار جيوبلوتيكية عديدة هي:
أولاً: ظهور عوالم ثلاثة جديدة على أساس تكنولوجي وليس إيديولوجي، وهذه العوالم الثلاثة هي:
- العالم ما قبل الصناعي: ويضم أغلب ما يعرف بدول العالم النامي، ويعتمد على المنتجات الأولية الزراعية والمعدنية.
- العالم الصناعي: ويضم الدول المصنعة حديثًا ، NICs ودول أوروبا الشرقية ويعتمد هذا العالم على الصناعة التحويلية.
- العالم ما بعد الصناعي: ويضم دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي OCED التي تضم اليابان وكندا والولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية وأستراليا ونيوزيلندا التي يعتمد اقتصادها على الخدمات بدرجة رئيسة.
ثانيًا:تغير أنماط التحالفات ودوافعها.
ثالثًا: ظهور ما يسمى بالإمبرياليات الفرعية.
رابعًا: أصبحت المعرفة بفعل الثورة العلمية والتكنولوجية هي أساس التميز.
هذا وقد اختتم البحث بنتائج لتحليل هذا التقسيم حيث إن تحليل تطور نظام تقسيم العمل الدولي عبر مراحله المختلفة وتحديد آلياته وأشكاله بالإضافة إلى آثاره الجيوبولتيكية يمكن أن يقودنا إلى تحديد موقع الوطن العربي في هذا النظام، وطرح ما يراه الباحث مناسبًا لخروجه من هذه القسمة الجائرة للعمل الدولي، ومما نراه مناسبا للعمل به هو أن تتجه عملية التعليم في الوطن العربي نحو تنمية القدرات على الحوار وحل المشكلات والتعلم الذاتي إضافة إلى محو الأمية الهجائية والكومبيوترية في وقت واحد، وإلى ضرورة إعادة تقييم مفاهيم الأمن القومي والقوة والحدود والمصلحة القومية وغيرها.