The image shows our cooperation with the online plagiarism detection service PlagScan

ملخص المقال



المقال الإفتتاحي

درس غزة!

رئيس التحرير - جواد الحمد


شكلت الحرب الإسرائيلية على غزة نقطة انعطاف جوهري في التفكير العربي بمآلات الصراع العربي- الإسرائيلي ومستقبله، فبرغم التخطيط الطويل والعمل الاستخباري المضني والتعاون الدولي والاقليمي مع جيش الاحتلال، وبرغم حشده لأكثر من ثلثي قواته النظامية وجزء من الاحتياط في هذه الحرب. رغم كل ذلك فقد تمكنت المقاومة الفلسطينية التي تقودها حركة حماس في قطاع غزة منفردة وتحت الحصار والتآمر الإعلامي والسياسي والعسكري والاستخباري من أطراف فلسطينية وعربية ودولية، تمكّنت أن تلحق بهذا الجيش هزيمة حقيقية، وأن الانتصار عليه تحقق بالصمود والمواجهة، وبإفشال خططه، وأخيرا بإعلانه وقف إطلاق النار من جانب واحد ليخرج من القطاع دون تحقيق أي من أهدافه، ولتبقى المقاومة بقوة كافية لتشكل قوة ردع واقعي وعملي لقواته. وطفقت الأطراف المعنية بتقييم الموقف وهي تبحث عن الأسرار وراء ذلك، فقد ذهلت القيادة الإسرائيلية بالعمى الاستخباري الذي أصاب قواتها، وتبين لها أن المعلومات التي اعتمدت عليها لم تكن دقيقة، كما أن الطابور الخامس والعملاء قد تمت السيطرة على معظم عملياتهم في الميدان. وتمكنت حركة حماس والحكومة التي تقودها من تحقيق السيطرة على الميدان المدني والإعلامي والأمني والعسكري في نفس الوقت حتى يقال بأنها أوصلت رواتب موظفي الحكومة إلى بيوتهم في اليوم الثالث للمعركة، فيما عرّفه البعض بأنه "إرادة سياسية وإيمان وتخطيط وصمود شعبي وتماسك داخلي"، كان وراء هذا الانتصار الكبير. ولذلك فإن انتصار المقاومة على قوات الاحتلال واندحار القوات الاسرائيلة شكل مصدر إلهام جديدا للمهتمين بمسألة الأمن والسلام من جهة، ومسألة تحقيق الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني من جهة أخرى، وكان من أهم دروس هذه المعركة التي علمتنا إياها غزة:

1- أن التقاء الإرادة الشعبية مع إرادة القيادة تشكل قوة لا يمكن هزيمتها.

2- أن عنصر الإيمان والارتباط بالأهداف العليا للأمة وللشعب الفلسطيني قد شكل دافعا وحافزا لا يمكن التأثير عليه من قبل العدو بكل الوسائل.

3- أن القوة الصغيرة التي واجهت القوات الإسرائيلية المدججة بأحدث أنواع الأسلحة تمكنت من ممارسة تكتيكات ميدانية والقيام بعمليات قتالية متعددة، بل وتمكنت من المحافظة على مصانع سلاحها ومخازنها ومراكز تجمع قواتها وتحركاتها العسكرية بطريقة مدهشة، وأفشلت محاولات العدو الوصول إلى أي من ذلك.

4- أن على الشعب الفلسطيني أن يدرك أن خيار المقاومة هو خياره الطبيعي وفق المواثيق الدولية والقانون الدولي، وأن عليه أن يحتفظ بهذا الخيار حتى تحقيق حقوقه وإنهاء الاحتلال، وأن إلقاء السلاح والاعتماد على كفاءة الحوار والحجج اللفظية للمفاوضين وضغوط المجتمع الدولي ثبت فشله مرارا وتكرارا، وقد فتحت معركة غزة الخيارات من جديد.

5- لقد كشفت معركة غزة حجم وعمق المأزق الذي يعيشه تيار التسوية وبقاياه، وظهر جليا كم كان لسيطرة هذا التيار على الضفة الغربية بقبضة حديدية وبتنسيق مع قوات الاحتلال في منع الشعب الفلسطيني في الضفة من نصرة إخوانهم في غزة، ناهيك عن دور غير محترم في إدارة أتباعهم في القطاع لدرجة تمني انتصار إسرائيل كما تناقلت كثير من الوفود العربية التي دخلت لنجدة غزة وخاصة الأطباء، ولذلك فإن معركة غزة قد علمت الشعب الفلسطيني مقياس الوطينة الحقة، وأن تيار التسوية وبرامجه إنما يعمل لغير الصالح الوطني، وأنه تيار مهزوم أمام الاحتلال وغير قادر على تقديم أي عون للمقاومة.

6- أن التيار الحامل للمقاومة في لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان هو التيار الإسلامي، وهو الذي أثبت قدرة فائقة على الحشد والتحريض وإدارة المعركة، ولذلك فإن على القوى الحية في الأمة أن تعيد النظر في التعامل معه ودراسة فكرة تسليمه قيادة المواجهة مع المشروع الصهيوني وفق اتفاق على قواسم مشتركة بين مختلف القوى الوطنية والقومية وغيرها، وأن محاولات مزاحمته على القيادة في هذا المجال قد ثبتت عبثيتها، كما أن الحكومات العربية مدعوة إلى إعادة النظر في علاقاتها بالتيار الإسلامي السياسي المستنير الذي يمثل إضافة نوعية لقوة الأمة في مواجهة الأخطار الخارجية، وأن الاستنزاف الحاصل في المواجهة مع هذا التيار خاصة في دول المواجهة إنما يمثل إضاعة لجهود الأمة وهدرا لقوتها الداخلية.

 7- أن أي دولة من دول المواجهة العربية تستطيع وحدها أن تهزم إسرائيل، ناهيك عن الحالة التي تقف جميعا في خندق المواجهة الواحد، ولذلك فإن إسقاط الخيار العسكري عربيا واستمراره إسرائيليا لا مبرر له، وأن الخوف من القوة الإسرائيلية الطاغية تقنيا ثبت بطلانه في حرب تموز 2006م في لبنان وحرب كانون ثاني 2009م في غزة على يد قوات المقاومة.

8- أن الموقف العربي كان محزنا إزاء المعركة في غزة، فلم يقدم العرب العون الطبيعي من السلاح والمال، ولم يفتحوا الحدود حتى لإسعاف الجرحى وتوصيل التموين للمقاتلين وللشعب، ونظرا للإغراق في فلسفة الاعتماد على المجتمع الدولي والعجز عن التخططيط وإدارة المعركة فقد ظهرالموقف العربي متخاذلا إزاء المطلوب في هذه المعركة، وبعد أن تمكنت المقاومة من صد الهجوم والعدوان الإسرائيلي وحدها ودون مساعدتهم عليهم مراجعة الفلسفة والاستراتيجية التي تعاملوا سابقا بها مع الصراع العربي- الإسرائيلي. 9- لقد أثبتت حرب غزة وانتصارها أن الأمة حية، وأن الشعوب قادرة على صناعة الكثير، ولكن النخب السياسية الحاكمة هي التي تعيق مثل هذا التحول، وأنه قد آن الأوان أن يرفض العرب حكاما ومحكومين مسلمات الاستسلام والتخاذل التي تحولت لدى البعض إلى ثقافة دائمة.

10- أن المجتمع الدولي الذي يدرك ويرى جرائم الحرب الصهيونية يمارس نفاقا سياسيا وإعلاميا مفرطا في التغطية على جرائم الكيان الإسرائيلي، وأن الوعي الجمعي للشعوب الأوروبية والأميركية الذي أظهرت حرب غزة قد أصبح عنصرا ضاغطا على القرار السياسي في حال تماسك الموقف العربي خلف المقاومة وإنجازاتها في غزة وغيرها.

11- لقد أكدت غزة للمجتمع الدولي أيضا أن الآلة العسكرية والاستخبارات النشطة والمفتوحة لا تستطيع قهر إرادة الشعوب والمقاومة التي تدافع عن الحقوق، وأن عليها أن تاخذ بالاعتبار أهمية الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير بعيدا عن العمل كأداة في يد حفنة من الرأسماليين وأصحاب البنوك الذين يرتبطون بالدوائر الصهيونية في العالم.

12- أن على إسرائيل أن تدرك أن عصر الهيمنة المتفردة المطلقة على المنطقة قد ولّى، وأن على شعبها أن يدرك أن قياداته لا تعبأ كثيرا بأمنه ومستقبل أطفاله كما يزعمون، وهم يضحون بكل ذلك لتحقيق أمجاد شخصية، وأن قياداتها تمارس التضليل الإعلامي المتواصل عليها؛ فقد ظهرت بوادر الهزيمة لقوات الاحتلال أمام المقاومة منذ اليوم السادس للمعركة في غزة، غير أن الإصرار على الاستمرار في حرب فاشلة كان مرده الدوافع الشخصية لدى القيادات الصهيونية من جهة، وبتشجيع من أطراف مستفيدة منها في الجانب الفلسطيني والعربي والدولي من جهة أخرى، أي أن القيادات الإسرائيلية قادت المعركة بدوافع شخصية وأجنبية على حد سواء، وعلى العقلاء الإسرائيليين الانتباه إلى أن الوقت قد نضج لمراجعة مثل هذه السياسات، وأن الانسحاب الكامل وغير المشروط وبهدنة متفق عليها ربما يكون الخيار الأكثر ملاءمة من الإصرار على الهيمنة والسيطرة على الآخرين واحتلال الأرض ورفض تطبيق حق تقرير المصير وحق العودة. وأخيرا فإن غزة التي انتصرت قد خرجت من المعركة جريحة كما هي كل معارك الشرف والكرامة والتحرير، وبرغم تحمل أبناء غزة لكل ما لحق بهم غير أن الواجب يملي على الأمة أن تلثم جراحهم، وأن توفر لهم كل سبل التعافي من الجراح، من إعادة إعمار ما تهدم، أو بناء ما يلزم للمواجهات القادمة، أو توفير المال والسلاح لدعم المقاومة وصمودها وصمود الشعب الفلسطيني، وأهم ذلك فتح المعابر التجارية والفردية على حد سواء، وبشكل دائم، مع السماح بتقديم كافة أنواع الدعم التي تقدمها شعوب الأمة في العالم، ونشير هنا ختاما إلى أن غزة لا تزال على موعد مع النصر القادم والحاسم بإذن الله، وأن على الأمة أن تقف إلى جانبها وإلى جانب مقاومتها. لقد كان درس غزة قاسيا مضرجا بالدماء، كما كان مؤلما، لكنه كان درسا تاريخيا لم يعبر إلا عن الشرف والعزة والكرامة، وأن على قيادة المقاومة أن ترفع قامتها عاليا لتفرض الشروط وتحقق الأهداف، وأن تستثمر هذا الانتصار لتحقيق مزيد من الانتصارات ومراكمتها حتى التحرير وإنهاء الاحتلال غير عابئة بالمرجفين والمخذلين.

عودة